الترياق

شغور
2 min readFeb 23, 2021

أذكر جيداً تلك الجلسة. أذكر أننا كُنّا في غرفة نومك، وأحضرتي لي صندوقاً كبيراً من خزانتك. أذكر أنها كانت من المرّات القليلة التي أشعر أنني نِدّاً لك، وأنني لم أعد الطفلة الصغيرة التي اعتدّي عليها. أذكر أنني كنت أرتدي كنزةً زيتية، ما زلت أقتنيها إلى الآن. أذكّر ابتسامتك حينما عبّرتُ عن إعجابي عمّا في الصندوق. أذكر الآمان والحُب الذي شعرته.

لكن بعد رحيلك، بدأت ذاكرتي تخونني. نسيت تعاليم وجهك، نسيت ما كنت ترتدينه في ذلك الوقت. شعرت أنني في سباق مع ذاكرتي لأكتب كل ما استحرضه منك لكي لا أخسرك.

للفقدان وموت ملامح عديدة، منها تطاير تفاصيل الذكريات حتى نصل لأن يصبح كل ما شاركناه كالحلم. كأننّا لم نعيشه. وفي ذلك الألم الكثير.

حتى الآن، وأنا في حالة السعي للرحيل، لأن لا أبقى في بلاد البؤس هذه. أشعر أنني في مبارزة مع عقلي ومقدرته على إحتواء كل حبيب. أخشى أن أنسى وجه جدتي وقهوتها. أخاف أن يتطاير صوت أمي من ذاكرتي. لا أريد أن تصبح مشاوراتي مع أختي وضحكاتنا شيئاً من ماضٍ في حياة سابقة. أريد أن أحمل كل من أحب معي، في ذاكرتي ووجودي. أريد أن أتذكر مدينتي وبيتي وغرفتي.

أدرك أننا شعوبٌ تحترف النسيان، لكي نخلق مقدرة للعيش. فقد إحتملنا الويلات، وليس بمقدور العقل البشري إحتمال هذا الكمّ الهائل من القتل والحروب. فننسى أو نتناسى. إننا كالأشباح، لا نريد حمل أي شيءٍ من أجسادنا سوى أروحنا التي نجت بعشرات الأعاجيب. نسينا ألوان الحياة ومغامراتها لأننا لم نعد نملك من الطاقة للإستمرار في مواجهة غرائب وعجائب هذه الدنيا. لكننا نعيش في حالة إغتراب مع أنفسنا وهويتها. نعيش حيواتٍ سقيمة خالية من المعنّى، جهلاً منّا بثراء موروثاتنا وأنه فيهم الترياق الأسمى لكلّ هذا الشحوب. فمن لم يعرف ماضيه، سيجهل حاضره ومستقبله. للذاكرة الدور الأسمى في الإنتماء وفي معرفة ملامح الحاضر حق المعرفة. حين نحمل أحداث السنين السابقة، نتعلّم منها. نكتشف أمراضنا وأوزارنا وكنوزنا. نتعرّف على أعدائنا وأصدقائنا. نحاول أن لا نعيد أحداث التاريخ كما حدثت. في الذاكرة الكثير من طفوح الوجود والجدوى.

ورغم كُلّ الويلات التي نعايشها الآن، أشعر أنني في سباق مع الزمن، لكيّ أجمع كل ما أستطيع من أحداث اليوم. لكي لا أنسى الألم. ولا أنسى مُسبب الوجع وملامحه. لكي أصبح أقوى في مجابهة الزمان وصعابه. ولكي أكسب بعض الحكمة في خيارات الحياة. حتى لا أنسى جمال الحياة أيضاً ومقدرة الله على تغيير الأحوال وتقليبها. وأنّ من طِباع هذه الدنيا أنّ كل من عليها فان، وفي ذلك الكثير من الرحمة والراحة.

--

--

شغور

“.نُعير الآخر طوق نجاتنا”